موضوعات

قيمة الإنسان.. بحث في أنثروبولوجيا الآباء

بقلم: ريتا جحا

قيمة الإنسان.. بحث في أنثروبولوجيا الآباء
أبدع الله الإنسان بما يحمل في ذاته من أبعادٍ مختلفة ليكون صورته على الأرض، وجعل له سلطاناً على سائر خليقته، باعتبار الإنسان هو الخليقة الأكثر احتراماً وكمالاً؛ وميّز الإنسان حتّى بأسلوب الخلق”لنصنع الإنسان على صورتنا ومثالنا” فقيمة الإنسان معطاة من الله بالذات.    
الإنسان أيقونة الله:
يقول غريغوريوس النيصّي”النفس تعرف الله بقدر ما تعرف ذاتها أنّها صورة الله” (1)، فمن أراد أن يعرف الله عليه أن يعرف الإنسان، وهو ما أكّده معظم الآباء (أوريجانوس، اكلمنضس الاسكندري، أثناسيوس الاسكندري، باسيليوس، كيرلس الاسكندري، اغسطينوس..)، موضحين أنّ الرحلة الداخلية لفهم الذّات هي مسيرة للقاء الله و معرفته، لأنّ الله قد جعل من الإنسان أيقونةً حيّةً له.
أراد الله للإنسان أن يجمع بذاته كلّ شيءٍ مخلوق على حدّ تعبير مكسيموس المعترف الذي يقول: “كلّ الأشياء التي خُلقت من قبل الله، في طبائعها المختلفة، قد جُمعت في الإنسان كوعاء انصهار وشكّلت فيه كمالاً مفرداً واحداً، وتجانساً مؤلفاً من ملاحظات مختلفة” (2)، وكأن فكر الله كلّه المتمثل بالخلق قد اجتمع في الإنسان الذي أضحى مرآةً لفكر الله الخالق، ففي ذاته الإنسانية جميع المخلوقات (التراب والهواء، النار والمياه، البركان الهائج والمياه الراكدة، الوحش المفترس والحيوان الأليف، الزهرة الجميلة والشوك المؤذي…)، يُظهر باسيليوس الكبير ذلك بقوله: “عندما لا يعود الذهن مشتتاً بين الأشياء الخارجية أو متناثراً في العالم، عبر الحواس، فإنه يعود إلى نفسه وبواسطة نفسه يصعد إلى فكر الله” (3).
إنّه “عالم صغير” كما خلقه الله وجعل من قلبه مسكناً له. يصف أوريجانوس هذه الحقيقة مُخاطباً الإنسان: “إفهم أنّك تملك في نفسك، على مستوى صغير، عالماً ثانياً. ففيك توجد شمس، ويوجد قمر، وتوجد أيضاً نجوم” (4) ، وأصبح قلب هذا العالم الثاني أي قلب الإنسان الصغير “واسعاً كفاية ليحتوي الله نفسه” على حد قول نقولا كاباسيلاس.
 يعطي غريغوريوس اللاهوتي وصفاً آخر للنفس التي هي نسمة الله فيقول: “إن النفس هي نسمة الله، وبالرغم من أنها سماويّة، فهي تسمح لنفسها بأن تتحّد مع الأرض، إنها النور المحفوظ في كهف، ولكنه ليس أقل من نور إلهي غير قابل للخمود” (5) ، فالنور الإلهي موجود داخل الإنسان رغم هشاشته وضعفه، ويشّع هذا النور بقدر معرفة الإنسان لعظمة إنسانيته واستمرار تواصله مع الشمس الإلهية منبع النور.
عظمة الإنسان:
صورة الله في الإنسان والتي تميّزه عن باقي الخلائق، تتجلى بما يملكه الإنسان من عقل وحريّة وكرامة، وبالفن الذي خصّه الخالق به عند تكوين جسمه، وهو ما أكدّه الآباء في حديثهم عن الكرامة الإنسانية وما يميّز الشخص الإنساني، ويعطيه الفرادة والقيمة المطلقة.
1- حريّة الإنسان:
يبيّن القديس أفرام السرياني قدرة الإنسان المتمثلة بإرادته الحرة فيقول: “إرادتنا الحرّة التي تقدر على كلّ شيء، هي تلد وتُبيد، وتُنهض” (6)، فحريّة الإنسان هي ما تجعله يختار الخير أو الشر الحب أو الكره، السلام أو الحرب..؛ وهنا تكمن عظمته!!..
لأنه وبفضل حريّته يمكن له أن يبني أو يهدّم، يمكنه أن يخطئ أو يفعل الصواب، فهو أمام العديد من الخيارات والتناقضات التي تعطي للحياة معنى، وتجعل لكل شخصٍ حياته الفريدة بطُرُقِها التي لاتشبه أحداً آخر، غير أنّ هذه الحريّة التي يمكن لها الذهاب بعيداً حتّى الخطيئة، هي معطاة من الله الذي خلقنا على صورته أحراراً، حيث يوضّح إيريناوس ذلك بقوله: “الإنسان حرٌّ منذ البدء، لأنه خُلق على مثال الله الذي هو أيضاً حرّ” (7)، وبالتالي لا يمكن لأحدٍ أن يسلب الإنسان هذه الحريّة تحت أيّ عذرٍ كان. 
ترتبط نظرة الآباء إلى الله بفهمهم لحرية الإنسان، وخاصة عند الحديث عن سبب الشر في العالم؛ فالشر عند الآباء ليس له جوهر بل هوغياب الخير، والخطيئة كما يقول النيصي”لاتوجد في الطبيعة بمعزل عن الإرادة الحرّة” (8)، لأن الله لم يخلق ماهو شر و”الله ليس مسبباً لعذابات الجحيم، بل نحن أنفسنا، لأن أصل الخطيئة وجذرها كائن في حريّتنا وإرادتنا” (9)، بحسب باسيليوس الكبير, وأساس هذه الحريّة عند الإنسان هو امتلاكه للعقل الذي يرّتب على حريّة الاختيار مسؤولية ما ينجم عن الخيارات من نتائج مختلفة.
2-عقل الإنسان:
يجعل غريغوريوس النيصي للعقل الدور الأكبر في توجيه حياة الإنسان الذي”بإرادته وحريّته، يستطيع توجيه أمياله للخير أم للشر، كالحديد الذي يمكننا أن نصنع منه محراثاً أو سيفاً. المهم أن يُسيّطر العقل..” (10). فالعقل هو ميزة الإنسان التي تجعله خلاّقاً بطبعه، مُبدعاً بفضل هذا العقل بإكمال عمل الله في الخلق وتطويع الخليقة لخيره، لأنّ عقله هو مايجعله ملكاً على كلّ الخلائق بما فيها من غرائب وعجائب، فيُظهر باسيليوس هذه الصفة الملوكية مخاطباً الإنسان بهدف أن يُدرك عظمته: “نعم أنت ضعيف ولست قويّاً كالحيوانات لكنّك تفوقها كثيراً، لأنّك ملكٌ غير مُنازَع عليها كلّها بقوّة عقلك..” (11).
سمة امتلاك العقل هي أبرز سمات الصورة الإلهية فينا، فهي خاصّة بالإنسان وكرامته، كما يؤكد ذلك القديس إيريناوس بقوله عن الإنسان: “إنّه عاقلٌ، وبذلك هو شبيهٌ بالله، خُلق حرّاً وسيد أفعاله..” (12)، والاستخفاف بعقل الإنسان هو احتقارٌ لكرامته، وحطٌّ من قدره بجعله في مصاف الكائنات الأخرى، التي يسود عليها باعتباره صورة الله؛ وهذه الصورة الإلهية حاضرة ليس فقط بالعقل بل أيضاً بجسم الإنسان الحامل لهذا العقل وذلك بتركيبته الخاصة به وحده بين جميع الخلائق.
3- جسم الإنسان:
جمال الجسم الإنساني يعكس عظمة الفنّ الإلهي لأنّ “المعرفة الدقيقة لجسم الإنسان تقود حتماً إلى معرفة الكائن العظيم الذي خلقه” كما يرى باسيليوس (13)، الذي يجد من خلال تأمّله برواية الخلق كيف أن الله عندما وصل لخلق الإنسان لم يقل “ليكن الإنسان” كما كان يفعل عند خلقه لعناصر الكون “بل جبل تراباً، فهو نفسه صوّر جسد الإنسان بيديه من تراب، لم يكلّف ملاكاً بهذه المهمة لكنه بيديه الإلهيتين كفنّان ماهر أخذ تراباً ليخلق الإنسان، فإذا نظرت إلى التراب تجد أن الإنسان هو كائن حقير، ولكن إذا نظرت إلى من صوّر الإنسان بيديه تدرك حينئذ عظمة الإنسان” (14).
 يمثّل الجسد الضّعف في الإنسان، فهو معرّضٌ للمرض والهرم والموت، لكنّ حكمة الله تبرز في هذا الضعف، فأسرار هذا الجسد بما يتكون منه من أعضاء مختلفة لكلٍّ منها وظيفة وبارتباط هذه الأعضاء غير القابل للفصل، تجعل من الجسم تحفةً فنية غير قابلة للتقليد أو النسخ أبدعها الفنان الأعظم.
يقول إيريناوس مبيناً أهميّة الجسد ومتحدِّثاً عن قيّامته: “إنّ الجسد سيصير قادراً على أن ينال قدرة الله (بالقيامة)، إذ إنه في البدء حصل على الفنّ الإلهي، وهكذا صار جزءٌ منه عيناً ترى وآخر أذناً تسمع، وآخر يدّاً تلمس وتعمل وآخر أعصاباً مشدودة من كل جانب وتجمع بين الأعضاء، وآخر شرايين وعروقاً يمّر فيها الدم ونفس نفس التنفس…. فالجسد إذن غير مُقصى عن فنّ الله وحكمته وقدرته التي تمنح الحياة وتظهر في الضعف أي الجسد” (15) ، فالجسم الإنساني بكلّ عضوٍ فيه، لا بل بكلِّ خليّةٍ فيه، يكشف صورة الله وعظمته، والتأمل بجسمنا يجعلنا ندرك حكمة الله من جهة وجمال إنسانيتنا من جهة أخرى، آخذين بنصيحة باسيليوس الكبير الذي ينصح الإنسان قائلاً”: أنصحك بفحص العجائب الكثيرة التي في جسمك. فصحيحٌ أنّك كائنٌ صغير لكنك عالمٌ كبير” (16).
عظمة الإنسان بما أُعطي له من عقلٍ وحريّة، تميَزه عن الحيوانات التي لاتملك العقل، كذلك عظمة الإنسان بجسمه الإنساني بما فيه من جمالٍ وتناسقٍ فريد وبما يحمل من هشاشة وضعف تميّزه عن الكائنات العقليّة غير الجسديّة (الملائكة)، “فالإنسان أجمل من الملائكة” على حدّ تعبير يوحنا الذهبي الفم؛ فلماذا يرفض الإنسان إنسانيته؟…. تارةً باحتقاره لجسده وتمنّيه أن يصير ملاكاً، وطوراً بانحداره للمستوى الحيواني مغيّباً عقله وإرادته، قابلاً العيش بالغريزة لا على صورة الله التي يُمثلُها.
 هناك العديد من الأسئلة التي تُطرح على ضوء ما كتب الآباء عن قيمة الإنسان وكرامته، خاصةً في عالم اليوم، بما يحمل عصرنا من تطور بالعلم والطب، وما يحدث فيه من تغيرات على المستوى الاجتماعي، وبالأفكار والفلسفات المختلفة المنتشرة والتي تأخذ مرجعاً آخر للقيمة الإنسانيّة غير الله.
أين قيمة الإنسان اليوم؟    
أعطى الآباء للقيمة الإنسانيّة حقّها فيما كتبوا، موضحين مايميز الإنسان عن كل الخلائق، فهو كمثل ما قال عنه باسيليوس كائن صغير يحوي عالماً كبير، وبينّ معظم الآباء من خلال تأملهم بالإنسان ذلك الكائن الأكثر ضعفاً في الكائنات، كيف احتوى في قلبه الله الأعظم في الكبر.
صورة الله الحاضرة في الإنسان بكليّته هي التي تعطيه القيمة لمجرد وجوده، ومن خلال فهم الآباء للقيمة الإنسانية سننظر للمواضيع التي تمّس هذه القيمة في عصرنا.
– تطورت العلوم تطوراً كبيراً بمختلف فروعها وهذا التطور خلق العديد من التجارب الجديدة على الإنسان، فمثلاً التقدم الكبير في علم الجينات، أدى إلى محاولات الاستنساخ البشري أوالتجارب على الأجنّة البشرية وهي تجارب تلمس مفهوم القيمة الإنسانية باعتبار أن الجنين كما أوضحنا سابقاً هو إنسان ذوقيمة في لحظة وجوده، والتعدّي على هذا الوجود أوالتلاعب به هوتعدّي على صورة الله فيه، كذلك فرادة كل إنسان بشخصه، تجعل من محاولة استنساخ الإنسان طعناً في هذه الفرادة المتجلية بكل مايُكوّن الإنسان وبالبداية والنهاية الإلهيتين اللّتين تكلّم عنهما مكسيموس المعترف.
 يمكن أن يكون لهذه التجارب العلمية فوائد؟!…، إمّا بمعالجة أمراض أوبفهمٍ أعمق لتكوين الإنسان لكن هذه النتائج رغم إيجابيتها لاتبرّر استخدام الإنسان كوسيلة لتحقيق أهدافٍ نبيلة، لأنّه بحدّ ذاته هدفُ كلّ الأهداف.
– ثقافة الاستهلاك المنتشرة اليوم أدّت بجانبٍ منها إلى تشييء الإنسان وجعله سلعة في بعض الأحيان، إمّا من خلال الإعلان أوعبر الإعلام الذي يتعدّى أحياناً على كرامة الإنسان وقيمته للتسويق لفكرةٍ ما، مسوّغاّ لنفسه ذلك بحجّة الشعار العظيم الذي يسّوق له كالحريّة والمساواة، الإضاءة على معضلة إجتماعية..، صحيح أنّه بذلك يخدم قضيةً سامية لكنه في الوقت نفسه ينتهك كرامة وقيمة أناسٍ ليسوا بعابرين أومجهولين، وقد يكون باستطاعته أن يتفادى هذا الانتهاك بمهنية عبر وسائل التكنولوجية الحديثة ؟؟؟!….
– يوجد بعض الأفكار والفلسفات التي تربط قيمة الإنسان بإنجازه لشيء ما(بعمله، بعلمه، بثروته، بثقافته، جماله…..)، على الرغم من أهميّة هذه الأمور وضرورتها لنمو الإنسان واستقلاليته، إلاّ أنّها ليست مصدر قيمته، بل هو من يعطيها القيمة.
هناك الكثير من التساؤلات الأخرى، يجمع بينها سبب واحد هوالنقص بالحساسيّة الإنسانيّة.
لتفادي هذه التعديّات لابدّ من التربيّة على الحس بالقيمة الإنسانيّة، فمن لايدركها لايستطيع أن يحترمها، ولعل التأكيد المستمر على هذه القيمة ومرجعيتها الإلهية ضروري لنمو تلك الحساسيّة تجاه الإنسان، فدور الإنسان والقصد من الخلق الذي تحدّث عنه الآباء مرتبط بمدى معرفته لقيمته.
الحواشي
1)    الأب الدكتور تيودور حلّاق، “اللاهوت الصوفي حسب القديس غريغوريوس النيصي”، سلسلة الفكر المسيحي بين الأمس واليوم، منشورات المكتبة البولسية، 2001، ص27
2)            St. Maximus text quoted by L.kar savine the holy Fathers and Doctors of the church. Paris,1926, p.                                                            
3)    الطرابلسي-عدنان”الرؤية الارذوكسية للإنسان(الانتروبولوجية الصوفية)”، منشورات النور، 1989، ص92.
4)            Father Kallistos ware: the orthodox way. S v s press: p24.
5)            Ibid. v v. P. G, t36, 1-3, 446-7.  
6)    المطرانان سليم بسترس، جوزيف العبسي، الأب حنا فاخوري”تاريخ الفكر المسيحي عند آباء الكنيسة”، منشورات المكتبة البولسية، بيروت، 2001، ص564.
7)    المرجع السابق6، ص308.
8)    مرجع سابق3، ص143.
9)    مرجع سابق3، ص137.
10)                       مرجع سابق1، ص20.
11)                       الأب الياس كويتر المخلصي “القديس باسيليوس الكبير، حياته، أبحاث عنه، مواعظه”، منشورات الكتبة البولسية، بيروت1989، ص317.   
12)                       مرجع سابق6، ص315.
13)                       مرجع سابق11، ص322.
14)                       مرجع سابق 11، ص326.
15)                       مرجع سابق6، ص316.
16)                       مرجع سابق 11، ص322.

منقول عن

جمعيّة التعليم المسيحي بحلب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى